top of page

ثُمَّ ماذا؟

أشعر دائماً أنَّ نسخة مُصغَّرة منِّى يجلس على كتفي، بالقرب من أذني. لا أراه لكنِّي لا أستطيع تجاهله، ومع أنِّى أنا من يحمله، لكنَّه هو من يقودني، أقرُّ هذا ببالغ الخجل.

كان حضوره في البداية غير طاغٍ، يراقب كل ما أمرُّ به في يومي بصمت، ثمَّ يجالسني قُبيل نومي ينتقد مواقفي وتصرُّفاتي، يوبِّخني على سذاجتي، يسخر من خيباتي، ويستهزئ من تفانيَّ في خدمة الآخرين، بالذَّات مع الذين لا يبدو عليهم النبل ولا يشكرون حسن الصنيع ولا يبادلونك الود ناهيك عن أن يبادرونك به.

ثمَّ صار حضوره أكثر نشاطاً، لا يدَّخر لي العتب لنهاية اليوم، بل يصرخ في وجهي تلو كلَّ موقف! كنت من فرط خيباتي لا أطيل جداله، أعرف أنَّه لايريد بي سوءاً، إنَّما يجنِّبني المزيد منها. لكنَّني أحياناً لا أملك أن أحتفظ بسكوتي. "ياخي مافيها شي لو ساعدته"، وكان يسكتني ردَّه "إيوة السؤال: أيش فيها لو ساعدته؟" ولم يكن سؤاله جدلياً، كان يستهم حقيقةً عن عائد هذه المساعدة التي لا أتوانى في إسدائها. ولم يكن يشير للمادة، بل لقيمة هذه المساعدة في الميزان الفردي والعلاقاتي والمجتمعي. ومع تكرار المواقف، كان يستخدم ذات الحجة بصيغ مختلفة، ويجاريني في حُججي حتَّى أنتهي مُقرًّا ألَّا قيمة لما أفعل أو أسكت مُفحماً. ومن الصيغ التي ظلَّت عالقة في ذهني حتَّى بعد أن تلاشى حضوره: "Then What?" كانت أحد أكثر الاستفهامات التي لاأجد لها ردًّا.

ثُمَّ ماذا؟ سؤال بسيط في مظهره، متداول، تغرُّك ألفته لتظن أنَّه غير مؤذٍ. لكن أجزم لك أنَّه أخطر ما يمكن أن يكون على المرء. الطريق للهاوية يبدأ من هنا. لا يتركك هذا السؤال تبتعد عن الطريق الشائك، يجعلك تنتشي بتحدِّى الوجود، يقودك للتصديق بأنَّ التحدِّيق في عين الخطر يرهبه. إنّك في اللحظة التي تعتنق فيها شريعة ال"ثمَّ ماذا؟" تتخلَّى عن كلِّ ما تخشاه وترجوه، وتصبح ملاحقة الأقدار ديدنُك. لا تأبه لشيء ولا بشيء، لا تتطوَّع لفعل الخير ولا عن دفع المكروه، لأنَّك مُصاب بهاجس: ثمَّ ماذا؟ تريد أن تعرف ماذا سيحدث لو تركنا القضاء يأخذ مجراه وظللنا نمشي على حواف الطريق. هل سيموت الجميع؟ هل سينتهي الكون قبل أوانه؟ هل سنُثبت نظرية أنَّ لا قيمة حقيقية لأفعالنا خارج نطاق شعورنا؟

أسئلة وجودية، أبحث عن أجوبتها.

لذلك لم أهرع لتنبيه الأم لمَّا رأيت ابنتها تبتعد عنها، كانت الفتاة مأخوذة بمراقبة المعروض على في المحلات ، كانت تمشي خلف سيدة أخرى لها ذات قوام أمِّها، و تنبَّأت بالفزعة التي ستصاب بها الأم ما إن تفرغ من مجادلة البائع على سعر السلعة التي تمسك.

ومع أنّي تبعت الفتاة بعيني وأعرف مسارها جيداً، تورَّعت عن تقديم المساعدة لما ركض الجميع نحو الأم المفزوعة. كنت مُخلصاً لإيماني بالقدر، و حريصاً على أن أتركه يأخذ مجراه الطبيعي. كنت أريد أن أعرف: ثم ماذا سيحصل إذا ضاعت الفتاة فعلاً!


-- نص شاركت به في مسابقة، ترشحت بس ما فزت 😅 -.



コメント


bottom of page